تحميل كتاب أنوبيس pdf
الكاتب: إبراهيم الكوني
التقييم:3.54
النيل والفرات
“ألا يحق للسلف أن ينعم برفقة الخلف ليلة؟ رمقني باستنكار. ويبدو أنه لم يفهم فتشبث بالصمت. كان عليّ أن أقرأ في استنكاره خطراً فأتوقف، ولكني وجدت نفسي أقطع شوطاً أبعد في سبيل إماطة اللثام عن سري هل تقضي الليل بمعيتي لو أخبرتك من أنت؟ في ضوء البدر أبصرت في مقلتيه وميضاً أغرب. أبصرت في عينيه دهشة، واحتياراً، وألماً. لم يجب على سؤالي فاقترب منه خطوة، خطوتين. انحنيت فوق رأسه وهتفت بصوت من اكتشف بئراً أو نبعاً أنت آرا لا شك أنك آرا انقلب كل شيء في غمضة. فزّ الشبح النحيل من مكمنه فزّة مارد وارتج رجّة لم أر مثلها مثيلاً في جسد مخلوق. لم أرَ له مثيلاً إلا في أجساد الممسوسين الذين لوّعهم الوجد طويلاً. لم أعرف بعدها ما حدث يقيناً. كل ما لمحته هو نصل المدية عندما تحمم بضوء البدر الوليد. ثم.. ثمّ حرارة السائل اللزج، المتخثر الذي تدفق من نحري. كنت ما زلت واقفاً في مواجهته عندما حشرجت بالسؤال ولكن.. لماذا؟ لماذا قتلتني؟ سمعته يجيب لأنك ستفشي للخلق سري إذا لم أفعل، فاغفر لي أطبقت بيدي على نحري. أحسست بالدوار، ولكن الطعنة التي أحسستها في قلبي كانت أقسى من الطعنة التي أحسستها في جسدي، فاستبسلت ألا تعلم أنك.. قتلت أباك؟ هواء1 كثيرون ادّعوا أبوتي النبوءة لا تصدق إلا في المرة التي نحسبها كذباً1 أنا أبوك هراء هل قدر الابن أن يميت أباه؟ قرأت في عبارته نبوءة راقت لي فغالبت الدوار، وحشوت طرف لثامي في جرحي، وجلست أرضاً. قررت أن أقول نبوءتي أيضاً لا بد أن نميت الأب كي نبحث عن الأب. لا بد أن نميت الأب كي نجد الأب سمعته يرددها كالمأخوذ لا بد أن نميت الأب كي نبحث عن الأب. لا بد أن نميت الأب كي نجد الأب أعلم أن أباك فعل يوماً بأبيه ما فعلته أنت الآن بأبيك؟ لم يجب. بدأ قرص البدر يرتجف ويكتئب في عيني فكلمت الشبح بوصيتي الأخيرة لك مني وصية لا تمد يدك على إنسان شربت من يديه جرعة ماء اختفى-فوجدت نفسي في سكوني معزولاً، مهجوراً، كما وجدت نفسي دائماً. وكان أكثر ما أخافني ألا أقدر أن أوقد النار لأستضيء بضوئها لأستكمل الرقعة الأخيرة في سيرتي التي أدركت الآن أنها لم تكن حقيقة. ولكن رغبتي الجنونية في تحويل الحلم إلى حقيقة جعلتني أستميت حتى تمكنت من إشعال النار لأطبع على رقعة الجد وسماً أخيراً يكون برهاناً للأجيال على حقيقة “أنوبي” الذي لم يكن ظلاً أو وهماً، ولكنه إنسان عبر الصحراء”.
يستحيل السراب في صحراء إبراهيم الكوني شاشة تتراقص على مساحتها عرائس الخيال، وينتشي فكره محلقاً في رحلة مع تلك العرائس إلى عوالم الأساطير، وفي هدأة سكون تتعشق أسطورة تتلبسه ويتململ في قلبه حنين للوقوف على حقيقة “أنوبي”، فيخرج باحثاً عنه عبر صحرائه الكبرى اللانهائية، كما يخرج المغامرون من طلاب الكنوز الذين تعج بهم الصحراء في ذلك الزمان، مع فارق صغير هو أن هؤلاء اعتادوا أن يهتدوا إلى مواقع الكنوز بخرائط ممهورة في رقع الجلد، وكنز إبراهيم الكوني وصيّة خفية جذرها في قلبه وجذعها مغمور في أفواه أقوام يرتحلون في متاهة الصحراء… فطاف الأركان متنقلاً على ظهور الجمال، وعابراً الصحراء برفقة بعض الأقرباء ليرتاد أبعد القبائل في “آزجر” و”آير” و”أضاغ” و”آهجّار” لاستنطاق الزعماء والأكابر والحكماء ففي “تينبكتو” كشف له بعض الأشياخ عن رقع جلدية مختفية في صناديق خشبية عتيقة.. تهرأت وتآكلت وبهت لون رموز “تيفناغ” المطبوعة على صفحاتها، وقالوا بأن هذا المتن هو أقدم تدوين للأسطورة، وفي “أغاريس”، نبهه الرواة ودهاة المراعي، إلى عسر استخلاص سيرة السلف “أنوبي” (أنوبيس) من أساطير الأقدام الصحراوية، لأن السيرة كثيراً ما تداخلت مع أساطير الملاحم وسير القدماء.
ولكنه لم ييأس، فدوّن كل ما سمعه من ألسنة الرواة، فاكاً رموز مانجا من التلف، ومقارنتها بروايات الشفاه، ومن ثم تنسيقها، وترتيب أحداث السيرة، وإعادة صياغتها بلغته الأم.. لترقد تلك الأسطورة بين الصفحات فترة من الزمن، ليطرق الفكر بابها من جديد بعد أن استبد بالكاتب عناء الترحال بين عواصم العالم ليجد في أن سيرة الجدّ الأول “أنوبي” (أنوبيس) ملامح من سيرته (وسيرة كل إنسان ظامئ إلى الحقيقة)، فينقلها حينها من اللغة الأم إلى لغة الضاد ليقينه بأن رحلة “أنوبي” ما هي إلا رحلة الإنسان في هذه الصحراء التي تسميها الأمم “العالم”. وشقاء “أنوبي” في بحثه عن لغزه ما هو إلا شقاء الإنسان في بحثه عن اللغز. وقبيلة “أنوبي” السرية ما هي، في حقيقتها، إلا القبيلة البشرية التي لم تجد سرّها منذ ذلك التاريخ البعيد حتى هذا اليوم.