تحميل كتاب طاعون يضع ساقا فوق الأخرى وينظر للسماء pdf
الكاتب: محمد أبو زيد
التقييم:3.38
بعنوان لافت، وإهداء سردي من “الخلود” لميلان كونديرا، يفتتح محمد أبو زيد تجربته الشعرية الجديدة “طاعون يضع ساقا فوق الأخرى وينظر للسماء” الصادر حديثاً في القاهرة، لدى دار “شرقيات” للنشر. محاولة للدخول إلى رأس القارئ من خلال تفاصيل يومية بسيطة، تجعل الشعرية مطروحة ببساطة وتلقائية، وتمكّن هذا القارئ من التوحد معها، والتغني بها، لأنها تمسه من الداخل، وتدفعه إلى الدهشة، والرغبة في رؤية نفسه في مرآة الشعر، يقدمها الشاعر هنا، في “كوبري ستانلي”، “عشيقة جيدة لدراكولا”، “كلمني شكراً”، و”قاتل تسلسلي”.
تأتي قصائد المحتوى الأول “كوبري ستانلي” محملة حساً عالياً، وولعاً لرصد الذات في علاقتها بالآخر، وتفاعلها مع ما حولها بكامل كيانها، من دون أن تتخلى تلك الذات عن بحثها الدؤوب ورغبتها في عبور الحد الفاصل بين الخيال والواقع، بتشكيل أسطوري يستفيد من “ألف ليلة وليلة”، بتكوينها التراثي، ودمجه في الصورة العصرية، التي يعيشها الشاعر، وينغمس فيها عن وعي “بصرخة واحدة أنزل المطر بإشارة من إصبعي الصغيرة أوقف الحرب بنظرة أبعد الموت عن أمي وبابتسامة واحدة، واحدة فقط سأزوج العاشقات المنتظرات في المترو”.
التأر جح بين الكوني والذاتي يمنح الشاعر مساحة أوسع للبوح بتلقائية، والإمساك بمفردات يومية من مرحلة الطفولة، تُشكل ثراءً ومخزوناً حكائياً فريداً “الحياة تبدأ حيث تذهب الطائرات الورقية حيث يضيء اللؤلؤ أسنان سارة ويبتسم النرجس في كُمّ سعاد”.
تلك الروح التي تحلق في فضاء القصائد كملاك ينثر الورد على أرواح متعبة، تظل على ثباتها في مواجهة الواقع بكل سطوته، وجبروته، ودحضه للأحلام، وللحياة “ابتسامات كثيرة على يسار فمي أخبئها عن عيونكم لكنني في الخريف القادم… سأسقي الزهور على قبري مياها غازية”. وقبل أن ينهي أبو زيد قصائد الجزء الأول من المجموعة، يأتي بقصيدة ميلودرامية، تعبر عن حال الشتات المسيطرة على الذات، ورغبتها في تجاوز ذاتيتها، من أجل قيمة ما، تدفعها الى مواصلة الحياة، حتى لو كانت تلك القيمة هي القتال “القتلى يذهبون للحرب حتى يلوحوا لكاميرات التلفزيون وهم يرقصون هربا من دوار البحر ففي الحرب فقط يشعرون بآدميتهم”.
يمكن القارئ أن يلاحظ سيطرة الحالة الوجدانية على المحتوي الثاني من قصائد المجموعة، بعدما مرت الذات الشاعرة بمرحلة إختبار لمدى صلابتها، في تحمل ضربات متتالية من دون أن تتخلى عن لحظات تقتات فيها الفرح، وتسعى الى العشق “عيناك تشبهان حقل جدي لكنه منذ سبع عجاف توقف عن الإخضرار وصدرك المزاحم للهواء نسيته على طاولة المقهى المرتفعة وانصرفت، ويدي في يدك”. تمرّتلك اللحظات الإنسانية المرهفة، تفاصيل حياتية تؤدي إلى التشبع، من دون اللجوء إلى فلسفة ما، لتفسير تلك الحالة “اليقين خيانة الشك
الشك خيانة اليقين لذا لم أعد أحب الحكماء”.
وحين تتخطى الذات تلك الحالة الوجدانية، وتبتعد المسافات بين العاشقين، تظهر الهوة السحيقة في عدم التواصل، أولى علامات الالتفاف على الداخل، والتقوقع في عزلة تامة، وذلك ما يظهر جلياً في قصائد المحتوى الثالث من المجموعة “كل شيء يضيع يا محمد ينسل نقطة نقطة”. ولا ينسى محمد أبو زيد وهو في ألقه الشعري، وقبضه على روح قصيدة النثر، أن يتمسك بشعريته، واختياره الفني في الشكل الملائم لها، وإصراره على المضي فيها، في الوقت الذي تجد فيه تلك القصيدة النثرية معارضة صارخة من أجيال شعرية تخلت عن شعريتها، وصلبتها على المقاعد الوثيرة، وأعمدة الصحافة الإستهلاكية، وباتت بلا خلق، وعلى رغم ذلك تصرّ على محاربة كل الأجيال الجديدة من أجل الحصول على إمارة زائفة “فقط أريد أن أنبه إلى أن هذه القصيدة لها حرمتها فلا ترصوا الورد بجانب الجثث في غرفة المعيشة”.
وهو بذلك يؤكد أن الحداثة الشعرية ترفض القوالب الشعرية الجاهزة، وتنتهج نهجاً خاصاً في بناء هيكلها، وسلّمها الموسيقي، بعيداً عن مبررات النقاد، مما يجعله يصادق روح الشعر، ويدعوها إلى بيته، ويترك لها حرية أن تنطلق من دون أن يقيد أجنحتها بدبابيس التحنيط “مساء الخير يا أمي، أنا محمد، ابنك، الذي يظل ينكش فوق الورق كدجاجة، ينتهى القلم، فأكتب بأصا بعي، بذراعي، بأطرافي، بجسدي، أنتهي ولا تنتهي الكتابة، أنا محمد يا أمي، يا أمهات المؤمنين”. ذلك ملمح مهم، يسعى إلى تأكيده محمد أبو زيد في قصائد الجزء الرابع من المجموعة.
هذه بعض ملامح شعرية ناعمة، تهدر بصخب إذا ما أحسنّا الإنصات إلى موسيقاها، في المجموعة الشعرية المبتكرة “طاعون يضع ساقا فوق الأخرى وينظر للسماء” لمحمد أبو زيد بداية من العنوان، ومروراً بالمتن، وانتهاء بإضافة أسماء المراجع التي ساهمت في بناء ذلك المشروع الشعري، مثل “القرآن الكريم”، “صحيح البخاري”، “ألف ليلة وليلة”، وغيرها. وهو بذلك يضيف لمحة شعرية مضيئة إلى تجربته الشعرية، ومجموعاته الأربع السابقة.
محمد العشرى