تحميل كتاب رسائل الغريبة pdf
الكاتب: Hoda Barakat
التقييم:3.86
“قلما نتأمل في “ألبومات” الصور… تلك الصور التي التقطناها في البلاد وحملناها معنا إلى هنا.. قلما نتأمل فيها، لا لأنها تثير الشجن والحنين لما مضى، بل لأن في بعض الأغراض التي حملناها معنا شيئاً غامضاً يجعلها عصية على الاندراج في خانات الذكريات المختلفة.. عصية علت التصنيف بحسب ما تملي مناسبات الماضي، ما يرتبط به من لحظات مثيرة للمشاعر. إنها صورنا القديمة التي أودعناها “الألبومات” بشكل اعتباطي، ولم نرقبها بحسب المناسبات كما درج الجيل السابق على فعل ذلك بعناية كبيرة… نعود بشوق إلى الصور القديمة ونغرق في المشاعر الآسرة حين توالف هذه الصور بين لحظات متباعدة من عمرنا… حين تربطها بعضها إلى البعض الآخر… وحين تخط الصلة بين محطات الرحلة الواحدة. هكذا، نكون أشجع على النظر إلى صور أهلنا القديمة… أنظر كثيراً وطويلاً إلى صورة لأمي وأبي في بداية زواجهما. كانا، آنذاك شابين جميلين. ترتدي أمي فستاناً فاتح اللون، وتنتعل صندلاً مشبكاً أبيض ذا كعب مزدوج. تلتقي ابتسامتها وابتسامة أبي، وقد قرب أرسه قليلاً من رأسها، عند عدسة المصور. إنهما في مقهى جبلي، بينهما طاولة رخامية صغيرة فوقها كوبا ماء فقط. لقد وصلا لتوهما، لا بدّ، ورغم الهواء الذي أمال أغصان الشجيرة خلفها ما زالت تسريحة أمي مصففة تماماً لم تعبث بها الأنسام القوية… أعيد الصور إلى مكانها. لم يكن بالإمكان أحسن مما كان. لعلنا كنا نصور بلاداً غير موجودة… جيلاً كاملاً خارج “الكادر”… صوراً تشبه المقص بين محطات رحلة الأعمار”.
نوبات الحنين تجتاح تلك الغريبة القابعة في بلاد الغربة والاغتراب، تثير داخلها مشاعر وأفكار وآراء تعبر عنها من خلال عبارات شفافة، وأسلوب أدبي يأخذ القارئ إلى حيث هي، مثيراً في داخله مشاعر الأسى على هؤلاء الذين أبعدتهم تفاريق الحياة قسراً عن بلادهم التي أحبوها وعشقوا أرضها وهواءها وسماءها وناسها. مقالات لطيفة تنسجها هدى بركات على نسق ما خطه أدباء الاغتراب المتقدمون، نثراً وشعراً. مضيفة إلى مقالاتها سمات أدبية خاصة تجعل من المقالة نصاً أدبياً متميزاً.
المؤلف
لسنا نشكل جماعة، نحن الذين بقينا خارج البلاد. لا نتشابه، ولا تشدنا أية روابط. قلما نلتقي، وإذا حصل ذلك لصدفة ما، فسرعان ما نفترق ونتفرق على إشارات من أيدينا بالتهاتف قريباً. ذلك بعد أن صرنا نُعفي بعضنا بعضاً من العتاب الكاذب. نفترق وتفرق بسرعة، ويداخلنا الجذل في التخفّف من لحظة ثقيلة، معترضة في سياق حياة تسيل وتجري كالنهر الهادئ. لحظة تزداد ثقلاً حين يكون اجتماعنا لشأن لبناني، كأن نحضر فيلماً أو ندوة عن بيروت، أو ما شباه، مما يستدعي الحضور مؤازرة أو مؤاساة أو حرجاً. وكنّا في السابق، كغيرنا من المهاجرين، نتلكأ عند المداخل وفي الممرات، ثم نجد في مقهى قريب فرصة للسؤال عن الأحوال والكلام عن حاضر البلاد، وأحياناً، للنقاش الحاد.