تحميل كتاب تاريخ قصير pdf
الكاتب: رنا التونسي
التقييم:2.50
الشعر خزّان الهواجس. غالباً ما يطلقها دفعة واحدة. ونادراً ما يتمكن من تجنب “الأذى” المنبعث منها. والأرجح أنه ما ان يقع في شركها حتى يتورّط في خطورتها ودهاليزها، فلا يعود بمقدوره أن يتجنّب الإحساس بمتعة المشاهد الغامضة المتوافرة بكثرة في عالم من المتاهة المتواصلة. رنا التونسي في نصوصها الشعرية الأخيرة بعنوان “تاريخ قصير” الصادرة عن “دار النهضة العربية” في بيروت 2007، تقترب من هذه التصورات، بشكل أو بآخر. والأغلب أنها تستخدمها على نحو من الخوض الحقيقي في تجربة مثيرة للانتباه، وهي تجمع شتات هواجسها قبل أن تبعثرها، من جديد.
شاعرة تنسف تاريخها
يبدو عنوان هذه النصوص “تاريخ قصير”، على تماس مباشر مع المضمون قيد التشكّل الدائم بين قصيدة وأخرى. والأرجح أن ما ينطوي عليه هذا الأمر، هو تلك الدلالات التي قد تفيد أن الفضاء الشعري الذي تتحرك فيه هذه النصوص، هو من نسيج هذه الهواجس الآنية التي لم تتجاوز، بعد، مرحلة التجريب. لذا، فهي قصيرة، متحوّلة، سريعة الانتقال من رصيف الى آخر، وهي تشق طريقها في شوارع الذاكرة العريضة. واللافت، أيضاً، على هذا الصعيد، أن الشاعرة المصرية، رنا التونسي، وهي لا تزال، بعد، في منتصف العقد الثالث، لم تدرج نصوصها، في الكتاب المذكور، تحت عناوين محدّدة، يُراد بها، في الأغلب، أن توجه ذائقة القارئ الى حيث يكون التوتر الشعري قد بلغ مداه الأقصى. نصوص بلا عناوين، ينفتح بعضها على بعضها الآخر، على نحو عشوائي، إذا صح التعبير. تشكّل، جميعاً، تاريخاً قصيراً، لتدفق الهواجس وهي تحاصر ذاكرة الشاعرة من كل الجهات. لا ترغب التونسي، في هذا الإطار، في أن تضع عنواناً محدداً أو دامغاً لتاريخ من اللحظات المرتبكة، قد لا يرقى، بعد، الى ما يجعل منه تاريخاً حقيقياً لسيرة ذاتية. الأرجح أن ما يحيل هذه النصوص تاريخاً قصيراً، هو أنها قد وُضعت، في الأساس، لتنسف تاريخ الشاعرة من جذوره العميقة.
قد لا يُقرأ النص من عنوانه، على الدوام. وقد يسفر العنوان، في هذا السياق، عن مقاربة مضللة للنص. قد يصادره، على نحو كامل أو ناقص. أو قد يقصّ جناحيه، أو يستأصل رئتيه، أو يضعه في الإقامة الجبرية. لهذه الأسباب أو لغيرها، ارتأت الشاعرة أن لا تقيم بين نصّ وآخر حواجز مصطنعة قد تتحول أسلاكاً شائكة تفرض منعاً للتجوال في متاهات النصوص وأرضها الوعرة وضفافها البعيدة. قد تُقرأ هذه النصوص من آخرها الى أولها، أو من أي مكان فيها الى أي مكان آخر. شرذمة صاخبة تبلغ، أحياناً حد البعثرة، تقفز بينها الشاعرة، أو فوقها، أو تحتها، وهي تبحث عن هذه الإشارة أو تلك، عن هذه الرعشة أو تلك وصولاً الى الصورة الشعرية الأخرى.
تنجح الشاعرة، في استخدام هذه التقنية، أحياناً. وقد لا يُقيّض لها الأمر عينه في مرات أخرى. غير نها لا تتوقف عن المحاولة، ولا تُفاجأ، أو تشعر بالإحباط أو الاستسلام إذا ما حدث وأن أضلت طريقاً فرعية أو رئيسية في رحلة البحث عن الهواجس المتعبة. غير أنها، وهي تفعل ذلك، لا يفارقها، أبداً، الإحساس بقلق اللحظة الشعرية، وتشظّيها، واقترابها الدائم من مناطق الظلال الغامضة. الهواجس التي تستدرجها رنا التونسي الى ساحة التأملات، هي من ذلك النوع الذي يلقي بها على حافة الهاوية (أيّهما الأفضل، التفكير في الحافة أم القفز من عليها. شركاء في الجريمة أنا والكتابة عنك. أعبر من عليك، ألعب في شرايينك، أحبس أنفاسك، ثم أفتح ابتسامتك وأفكر في الكتابة إليك رسالة جائعة للحب).
القلق هو المحرك
وقد تستجيب هذه الهواجس، أيضاً، لاخطار أخرى هي من صنف الكوابيس، اذا صح التعبير. المهم، في هذا السياق، ان الشاعرة تستهدف صورها من حيث يبدو القلق هو المحرك الأول للتدفق الذاتي وهو يصعد سلم الاحتكاك المباشر مع التحولات المتوقعة في كل لحظة (أحلامه التي عذبتك وانت نائمة تدغدغك قبلة الريح، ويخفق قلبك من كل ما هو ممنوع. احلامه التي عذبتك والزفير الذي لا يليق بك). على هذه الخلفية من الاحساس المبكر بهول المفاجأة ودهشتها، تتوالى النصوص، على نحو لا ترجمة حقيقية لها الا بكونها تعميقاً للرؤيا واستكمالاً، على الأرجح، للحظات تستعيدها الشاعرة نتيجة لعنف في طبيعتها الداخلية (اهبط على الدرج وأنا أكتم صراخاً مجروحاً مثل شفرة حلاقة في فم أحد المساجين. هنا أصل لتخونني الرحلة وأجد في يدي كما هائلاً من الهواتف الخلوية، رسائل لا تصلني وحبيباً لا يليق بي. غادرت عائلتي فجأة، وتركتني ضفائري معلقة على جذع احدى النخلات. شرياني مفتوح. على طريق آخر لم اسلكه. لو كانت لي معركة لتركت جنودي تذهب هناك وتحارب بلا ضمير).
من حافة الهاوية إلى اللعب في الشرايين، إلى عذاب الأحلام، إلى الصراخ المكتوم والشريان المفتوح، صور متعددة لحركة تزداد سرعتها كلما بدت الشاعرة اكثر جرأة على مواجهة هواجسها. تتجسد هذه التجربة الصعبة على نحو من الاحساس المرهق بالوحدة، والحاجة إلى التوحد في أكثر اشكاله رهبة (الشاعر يستيقظ وحده في الليل، يكنس التجارب الهائلة التي سقطت من على الجدران، يركنها برفق في انتظار ان تدق واحدة منها الباب يوماً). ومع ذلك، يتعذر الاقتراب من هذه الأشكال الشعرية بعيداً عن ميل الشاعرة إلى التعبير عن تصوراتها وهي تستعد للانتقال النهائي إلى عالم المتاهة. هناك تتعرى الاشياء، مما يحجبها عن التوغل العميق في مسام الرؤيا الشعرية.
في المتاهة، يغيب الحضور. ينسحب تلقائياً للغياب الذي يصبح اكثر سطوعاً واكثر حقيقة من الحضور عينه. الغياب يفضح الحضور، يحل مكانه. والأرجح انه يقصيه إلى خارج الفعل الشعري (حضوره المدجج بالغياب، دقات قلبه التي تفور بدمي، ذلك الغارق في سماء من الوحدة فوق قمم الجبال، خيول كثيرة تركها ترقد هناك خائرة، وقصائد يجمعها كالورود المبللة من عيني يسمع اغنيات حزينة عن الرحلة، يحدثني عن موتي هنا وموتي هناك، وأنا وحدي اعرف معنى ان يكون الواحد اشلاء دون أن تضربه السيارات الغريبة ولا القنابل القوية، دون ان يعاصر حرباً حقيقية. لا تغرقه الدماء…. الدماء التي تتسلل إلى جسدي الصغير النائم غصباً ارجوحة وهمية، جسدي المغطى بالدماء والرغبة المستعرة في كيفية الإطفاء).
نصوص تتحين الفرص لتنقض على نفسها. وهي تفعل ذلك، مراراً وتكراراً، في الكتاب. تخشى على ذاتها من ذاتها. تهجر الفكرة لتفاجئها من جديد. تتريث قليلاً قبل ان توجه ضربتها القوية. ثم تتراجع لتتقدم مرة أخرى (المرأة البعيدة عن كل المحن في عبورها الخافت تشب النسور، الحزن وحده يربت على اكتافها). تزعم الشاعرة انها تبتعد عن المحن. غير انها سرعان ما تلقي نفسها في دائرة من المحن الأكثر صعوبة وخوفاً ولكن الأكثر قدرة على إحالة الهواجس صوراً شعرية. ومع ذلك، فهي حزينة، كما نقرأ في النص، والارجح ان ذلك ناجم من تلك الحالات النفسية التي تستدرجها الشاعرة، ثم تنجر اليها، او تصطدم بها ، ليفترقا ثم يلتقيان ثانية. حزن هو من نسيج التساؤلات الشعرية، والتوق إلى التصالح مع الصورة الشعرية وهي تنساب تدريجياً. غير ان ذلك لن يحصل. فلا صلح ولا تصالح مع الصورة الشعرية. لا اكتئاب دائماً، لا اكتفاء دائماً. مواجهة مستمرة اشبه بالتجاذب بين الشيء ونقيضه. ينقلب أحدهما على الآخر. وهكذا دواليك.
قد يخيل إلى الشاعر انه تصالح، أخيراً، مع صوره. يكذب على نفسه. او تكذب عليه صوره. كالريح العاصفة هي الصورة الشعرية. تهدأ قليلاً لتهب من جديد
جهاد الترك