تحميل كتاب النحنحات pdf
الكاتب: إبراهيم صموئيل
التقييم:3.79
“كاد يصرخ ويولول منادياً “يا أمي…”، لكنه خاف تذكر حدقتيه الجامدتين في محجريهما كمخلبي قط بري، ونظراته القاصمة، واحمرار وجهه الناري، ومنخريه النافثين مثل فوهتي بركان… فتكوم على نفسه وأخمد أنفاسه ذائباً في رعبه…
ثم خطر له أن يلتفت ليرجوه ألا يفعل، يتوسل إليه بكل ما يعتصره من فزع… لكن رائحة الخمر الكثيفة التي فاحت إليه للتو خدرت عزمه وأشعرته أن لا جدوى من خاطره، ثم راحت تعيد إلى ذاكرته هيئته ساعة يعود إلى البيت مخموراً، فاجراً، يرنحه الشراب والسهر.
“آه لو كانت أمي حية” رجا في قلبه وشد على جفنيه المطبقين كما لو كان يجهد في انتزاع رخام القبر عن جئة أمه، يعيدها إليه، ثم يحتمي بها -كما اعتاد أن يفعل في حياتها- كي تذهب معظم الصفعات والركلات هباء، أو تتلقاها أمه، وهي تخفيه خلفها، تحميه من سورته المجنونة، دون أن تئن أو تشكو، وكأن حماية ولدها غاية تهون عليها آلامها وتعطيها القدرة على تحمل المصائب والبلايا التي تحل عليها من زوجها.
أكانت أمه، إذن، تخمن حدوث ذلك، ولذا ما انفكت في حياتها توصية وتلح في أن يخبرها بكل ما يعرض عليه أو يحدث معه؟ أتراها كانت تحتاط في سرها فما برحت تحذره من أي شخص، قريب أو بعيد، وتصر على أن يلازمنها باستمرار، وخصوصاً في الليل حين يأوي إلى النوم؟
أتكون قد حدست بما لم يحدث به أو يعيه أو يخمنه، فبقي هاجسها سراً عليه طي الغموض، حتى انزلق مع قدمها من على سطح الدار ودفن معها، فلم يستطع تبينه ومعرفته إلا في غياهب تلك الليلة؟.
بلى… حدث وعاندها مرات في وصاياها… وحرد مرات أخرى أيام كانت تستنكر مجيء أصدقائه خلال وجود أبيه في البيت وغيابها عنه، أو تؤنبه إذا لم يعلمها قبلاً كي تترك مشاغلها وترعاهم… سوى أنه رغم زعله وضيقه من أوامرها وتحفظاتها، كان يمتثل ويرضي من مجرد ضمة أو قبلة أو توسل حنون من عينيها.
ما عن على باله أن يسألها سبب حرصها الزائد عليه، ومداراتها الغالبة، وقلقها المتخوف من بقائه مع أبيه أو انفرادهما بعيداً عن ناظريها. وحتى حين فعل وسألها عرضاً، ما ألح وما أصر… فابتسامتها ورجاؤها ومداعبتها كانت كافية لتطفئ دهشته وتساؤلاته الحارة، فتقول وتعيد “كرمى لي يا أمي… كرمى لي يا حبيبي”، فيلين وينسى”.