تحميل كتاب المارق pdf
الكاتب: الحسن البخاري
التقييم:3.84
بدأت المعركة حامية دون تدرج , وانهالت الرصاصات تسكب كأمطار الشتاء الدمشقي القارس, تُكوّن بمجموع ضوضائها أنغامًا تقصُّ على السامعين تاريخ البشرية من لدن الغراب إلى يومنا .
كل ضغطة بسبابة أبي قتادة هي استدعاءٌ عاجلٌ فوري لملك من ملائكة الموت, تعالت الصيحات بالتكبير, والمدافع بالتفجير, وهلعت طيور السماء فانفضّت, وبكسل انقشعت السحب شيئًا فشيئًا كأنها تفرّ قدر وسعها من غبار المعركة, مخلّيةً بين الشمس وبين رؤوس المتقاتلين.
اندفع الجند من الفريقين إلى وسط الميدان تحت الرصاصات مكبرين, على أرضٍ بوار, لا شيء فيها إلا الرمال والمباني المهترئة التي تسكنها السريّة مؤقتًا, وتحت أشعة الشمس التي يخفّف حدتها سُحيباتٌ ؛ كلٌّ يرى الجنة في فوّهة سلاح عدوّه
حمي وطيس المعركة ولم ترجح كفّة فريق على الآخر, وبدا لناظرٍ من الميدان أن الحرب لن تنتهي إلى يوم القيامة, وقال أبو قتادة لنفسه مرة وهو يضغط على الزناد لماذا دائمًا تذكرني هذه القناصة بجهاد ؟
يتساقط القتلى فتنساهم الدنيا, لا أحد يسجّل أسماءهم, لا أحد يعرفهم, لا أحد سيفتقدهم إلا ذووهم, حتى ذووهم سينسونهم مع دبيب السنوات على ذاكرتهم كالنمل, هكذا الشام يتساقط أبناؤها كأوراق الشجر عند الخريف, أتاها الخريف ولا يودّ أن يتزحزح عن صدرها .. معلّقٌ مصيرها على جناح طائر الغيب, ترثي نفسها وترثي مجدها وترثي أيامها, كعجوز تتأمل بشرتها في المرآة متذكرة أيام الشباب, ما أشبه الشام بأم مالك