تحميل كتاب العقل في الإسلام بحث فلسفي في حدود الشراكة بين العقل العلمي والعقل الديني pdf
الكاتب: خليل أحمد خليل
التقييم:3.10
يتساءل خليل أحمد خليل في كتابه الصادر بطبعته الثانية (دار الطليعة 2010)، ما العقل؟ لمَ العقل؟ فيقيم تمييزاً معرفياً، بين العقل والعلم والمعرفة، على قاعدة أن الإرث السائد يجمع بينهم، في حين أن العقل “عقل يكوِّن وهو يتكوَّن” خلافاً لما ذهب اليه لالاند في موسوعته العلمية في تقسيمه للعقل، إلى مكوِّن، ومتكوِّن؛ فالعقل الذي يمثل “نور الجسد الكوني” لا يعرف الانشطار، وعلى إيقاع البحث عن علم اليقين بعقل القلق، يتحرى الكاتب عن ازدواجية العقل والوحي من جهة _ أو الخيال كما يصفه بعض المتأولة _ والعقل والنص من جهة أخرى، ويرى أن هذه التجزئة لا تهدف إلاّ لتذرير عقل العقل، أي العقل المستقل في توظيفاته. ومأساة العقل العربي عنده، ليست في مولده التاريخي بل في تصنيفه، الوافد، من حقل التاريخ السياسي، لا من حقل المقدس أو القدسيات الإسلامية.
التحليل الايقاعي، شكّل المنهجية العلمية التي اعتمد عليها الكاتب في تفكيك تساؤلاته، إذ تتمحور غالبيتها حول تساؤلين مركزيين ما هي حدود الشراكة الأولية بين العقل العلمي والعقل الديني؟ ولماذا أفضت مسارات المعاقلة الشيعية بدءاً من هاشم معروف الحسيني إلى محمد حسين فضل الله إلى تورخة اعتقادية؟ مع الإسلام المولِّد للعقل التوحيدي، يستهل صاحب “سوسيولوجيا الجمهور السياسي الديني في الشرق الأوسط المعاصر” نقده للعقل الاعتقادي، الذي غيَّب عقل النبوة، بعد أن دبّ الخلاف على السلطة، فتمت مصادرة العقل بفعل قوة السلطان، فحوّل التوحيد عن مساره، ووصف بعد دولة الراشدين بـ “الامبراطوري”، بفعل العقل الإرجائي السلطوي، الذي عمل على إلغاء التعدد، بدل الحوار معه؛ الإسلام المصدري أو إسلام القرآن عنده يقوم على قاعدة “أفلا تعقلون”، وهو عقل تشاركي، تعددي، لكن إقصاء عصر النبوة الممتد مع الرسول وبعده، إلى حين تحول الحقبة ما بعد الراشدية إلى مُلك عضوض أفضى إلى محاربة الآخر دفاعاً عن السلطة؛ فهل العقل الديني عقل مانع؟ الإسلام لم ينتج مانعيته من النصوص، إلاّ يوم انقلب سلطة بلا معرفة، دولة بلا فقه حر.
يحدد خليل أنموذجين لقراءاته النقدية، الأول، مع محمد عابد الجابري، والثاني مع محمد أركون، ولكنه قبل مطالعته لرباعية نقد العقل العربي عند الجابري، ونقد العقل الإسلامي عند أركون، يستحضر التوليفات التي أسس لها منظرو المسألة السياسية في الإسلام، بين القائلين بخلافة منشودة، والمنادين بإمامة منتظرة.
مع الجابري المنظر لاستقالة العقل من تاريخ الحاضر العربي، يبدأ الكاتب معركته النقدية، ويسأله، عن أسباب دراسته للعقل التاريخي العربي من خلال تمذهبه وإنقساماته، وليس من خلال المسكوت عنه لمسيرة التغالب العربي على السلطة، ويرى أن التمييز الذي أقامه صاحب “تكوين العقل العربي” بين عقل سُني وآخر شيعي بوصف الأخير بـ “العقل المستقيل”، يمثل تفريقاً إيديولوجياً، لا يأخذ في الاعتبار أن هذا العقل الشيعي المعارض، كان في صميم هذا التاريخ التغالبي، وهو عقل رافض للسلطة. ناقد العقل الإسلامي، أركون، الذي خلص من نتاجه الفكري الكثيف إلى أن الأصل الالهي هو المسيطر على العقل العربي، يرد عليه خليل، بنفي إمكانية توظيف العقل البشري في حقل اعتقادي، فلا وجود لعقل مؤمن وعقل غير مؤمن؛ الفرضيتان لا علاقة لهما بتوصيف العقل ولا بتوليفه.
القسم الثاني من الكتاب يتمحور حول ما أسماه خليل بـ “المعاقلة الشيعية” المعاصرة، عند أهم رموزها من هاشم معروف الحسيني إلى محمد المظفري إلى مرتضى المطهري، إلى محمد جواد مغنية إلى محمد مهدي شمس الدين وصولاً إلى محمد حسين فضل الله. وفي قراءته النقدية لـ” سيرة المصطفى” أبرز مؤلفات الحسيني، يتوصل صاحب “جدلية القرآن” إلى نتائج عدة، أولها تضارب الروايات، ثانيها سيطرة التورخة المؤدلجة والمؤسطرة، ثالثها، تجاوز التاريخ للميتاتاريخ. كتاب “تاريخ الشيعة” للشيخ المظفري، مثّل العينة الثانية، للمعاقلة الشيعية. المظفري الذي أقام علاقة رمزية بين التشيع وعلم الإمام المعصوم _الذي يستمد علمه من الفيض الأعلى _ بدأ بتورخة التشيع السياسي منذ يوم الغدير، وليس من اجتماع السقيفة، وهنا يسأل خليل، هل استقام التاريخ مع وصول علي إلى الخلافة؟ ولماذا تحول تاريخ المسلمين إلى تورخات مذابح واجتثاثات؟ ألأن عقل السلطة لم يتسع لعقل المعارضة؟ وبرأينا أن الإسلام التاريخي أسس للحروب والتغالب منذ الخلاف حول قيادة الجماعة، التي تحولت بإسم الدين إلى حزبيات ومذاهب كما خلص الشيخ عبد الله العلايلي. والخلاصة التي يمكن استنتاجها من تاريخ الإسلام الغابر والحاضر، أن الدولة السلطانية هي التي تحكمت بمصائر الأمة، وعلى هذا لا يمكن الجزم بأن الإسلام، الدين الأكبري، والتوحيدي، هو الذي بلور تاريخ المسلمين، إنما المعطى السياسي هو الذي طبع تاريخهم، منذ الخلاف على قيادة الجماعة بعد وفاة الرسول. وطبعاً الصراع على السلطة لم يترك مجالاً لعقل الدولة، فهل نحن أمام محنة للعقل العربي أم أننا أمام أزمة تاريخية؟ العقل وفق المفهوم الهيغلي، يؤسس للوحدة، والانغلاق العقائدي والتاريخي، هو الذي أنتج العنف السياسي طوال تجربة الخلافات.
يستفاد من أطروحة خليل احمد خليل، ان الإسلام، إسلام التوحيد والعدل، تحول نتيجة الخلاف السلطوي، إلى إسلام التشرذم والتمذهب، ورغم مركزية المعاقلة الشيعية في صفحات الكتاب، لكن ثمة أفكار وفرضيات، تعالج مفاصل معرفية شديدة الأهمية، لعل أبرزها غياب سياسة العقل في قيادة أمور الجماعة، وإقصاء المعارضة الشيعية عن الحكم على مدار الخلافات والوصايات؛ المعارضة تلك، كانت بحكم التاريخ، نتاجاً أو رد فعل على السلطة القمعية، وليست عقلاً مستقيلاً كما ذهب إلى ذلك الجابري.
أرهقنا خليل أحمد خليل في أطروحته، الكثيفة، والكاشفة؛ ونصه هذا، يمثل ذروة نتاجه الفكري، الإبداعي، وهو بالضرورة يحتاج إلى قراءات متأنية، لكثرة ما يحويه من إضاءات، لما يزل العقل النقدي، يتحرى عنها، متصدياً لعقل النص حيناً، وللعقل الاعتقادي حيناً آخر.