تحميل كتاب الرسول العربي وفن الحرب pdf

تحميل كتاب الرسول العربي وفن الحرب pdf

الكاتب: مصطفى طلاس

التقييم:2.67

تاريخ النشر: 1977
Goodreads

«وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون»(2)


أيها الرجال
يا رفاق السلاح…
إن من عادة الأمم المتحضرة أن تكرم قادتها الذين تركوا في تاريخها أثراً بارزاً، ومن أولى من الأمة العربية في هذه الظروف الصعبة التي تواجهها والمتمثلة بالتحدي الصهيوني والإمبريالي، وباحتلال أجزاء عزيزة من التراب العربي، بأن تعود إلى ماضيها تأخذ منه ما يناسب حاضرها وتوحد كلمتها وتقف بحزم في وجه الصهاينة الغزاة ومن يقفون وراءهم ويشدون أزرهم حتى يتم لها تحرير الأرض المحتلة وتوحيد الأمة المجزأة. وإنني لواثق من أن الرسول العربي لو كان بيننا الآن يشاهد بأم عينيه كيف يحتفل العرب بمولده لما كان مسروراً قط، إذ لن يرضى من اعتبر الجهاد ركناً من أركان الإسلام ـ والذي قال «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها» ـ أن يتحلق الناس في ذكرى يوم مولده كالدراويش في المساجد وهم يميلون برؤوسهم عند سماعهم قصة المولد ويعتبرون أنهم قاموا بواجبهم نحو رجل لم تعرف الإنسانية مثيلاً له لا من قبل ولا من بعد…
إن الاحتفال الصحيح بذكرى مولد الرسول العربي لا يكون إلا في مواجهة العدو الغازي وفي الثبات والصدق عند اللقاء، كما حدث في الجبهة السورية في يوم الثاني من نيسان 1970 وفي الإعداد لمعركة التحرير وحشد الطاقات العسكرية العربية لهذه الغاية المقدسة. وهذا الهدف العظيم.

من الميلاد إلى البعث

كان عبد المطلب قد جاوز السبعين أو ناهزها حين حاول أبرهة الحبشي مهاجمة مكة، وهدم البيت العتيق، وكان ابنه عبد الله في الرابعة والعشرين من عمره. فرأى أن يزوجه، فاختار له آمنة بنت وهب بن عبد مناف سيد بني زهرة إذ ذاك سناً وشرفاً.
وأقام عبد الله مع آمنة في بيت أهلها ثلاثة أيام، على عادة العرب، حتى يتم الزواج في بيت العروس. فلما انتقل وإياها إلى منازل بني عبد المطلب، لم يقم معها طويلاً، إذ خرج في تجارة إلى الشام وتركها حاملاً، ومكث عبد الله في رحلته هذه الأشهر التي يقضيها الذهاب إلى غزة والعودة منها، ثم عرج على أخواله بالمدينة يستريح عندهم من عناء السفر ليقوم بعد ذلك في قافلة إلى مكة، لكنه مرض عند أخواله فتركه رفاقه حتى إذا بلغوا مكة أخبروا أباه بمرضه. ولم يلبث عبد المطلب حين سمع منهم، أن أوفد الحارث أكبر بنيه إلى المدينة ليعود بأخيه بعد إبلاله. وعلم الحارث حين بلغ المدينة أن عبد الله مات ودفن بها بعد شهر من مسير القافلة إلى مكة، فرجع أدراجه ينعي أخاه إلى أهله ويثير من قلب عبد المطلب، ومن قلب آمنة هما وشجنا، لفقد زوج كانت آمنة ترجو في حياته هناءة وسعادة، وكان عبد المطلب حريصاً عليه حتى افتداه من آلهته فداءً لم تسمع العرب من قبل بمثله.
وترك عبد الله من بعده خمسة من الإبل وقطيعاً من الغنم وجارية هي أم أيمن حاضنة النبي من بعد. ربما لا تكون هذه الثروة مظهر ثراء وسعة، لكنها كذلك لم تكن تدل على فقر ومتربة.
وتقدمت بآمنة أشهر الحمل حتى وضعت، فلما تم لها الوضع بعثت إلى عبد المطلب عند الكعبة تخبره أنه ولد له غلام، وفاض بالشيخ السرور حين بلغه الخبر وذكر ابنه عبد الله وقلبه مفعم بالغبطة لخلفه، وأسرع إلى زوج ابنه وأخذ طفلها بين يديه، وسار حتى دخل الكعبة، وسماه محمداً. وكان هذا الاسم غير متداول بين العرب، لكنه كان معروفاً، ورد الجد الصبي إلى أمه وجعل وإياها ينتظر المراضع من بني سعد لتدفع الأم بوليدها إلى إحداهن. على عادة أشراف العرب من أهل مكة.
وقد اختلف المؤرخون في العام الذي ولد فيه الرسول العربي ولكن أكثرهم يرجح أنه عام الفيل (570 ميلادية). واختلف المؤرخون كذلك في الشهر الذي ولد فيه وإن كانت أكثريتهم تجمع على أنه ولد في شهر ربيع الأول في اليوم الثاني عشر منه كما يقول ابن اسحق وغيره، وفي سابع يوم لمولده أمر عبد المطلب بجزور فنحرت، ودعا رجلاً من قريش فحضروا وأطعموا، فلما علموا منه أنه أسمى الطفل محمداً سألوه لم رغب عن أسماء آبائه.. فقال أردت أن يكون محموداً في السماء لله وفي الأرض لخلقه.
وجاءت مراضع بني سعد إلى مكة يلتمسن الأطفال لإرضاعهم، وكنَّ يعرضن عن اليتامى لأنهن كن يرتجين البر من الآباء. أما اليتامى فكان الرجاء فيهم قليلاً، لذلك لم تقبل واحدة من أولئك المراضع على محمد، وذهب كل منهن ترجو من أهله وافر الخير.
على أن حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية التي أعرضت عن محمد أول الأمر كما أعرض عنه غيرها لم تجد من يدفع إليها طفلها، ذلك أنها كانت على جانب من ضعف الحال صرف الأمهات عنها. فلما أجمع القوم على الانطلاق عن مكة، قالت حليمة لزوجها الحارث بن عبد العزى والله إني لأكره أن أرجع مع صواحبي ولم آخذ رضيعاً، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم ولآخذنه. وأجابها زوجها لا عليك أن تفعلي، عسى الله أن يجعل فيه بركة. وأخذت حليمة محمداً وانطلقت به مع قومها إلى البادية.
وأقام محمد في الصحراء سنتين ترضعه حليمة، وتحتضنه ابنتها الشيماء، ويجد في هواء الصحراء وخشونة عيش البادية ما يسرع به إلى النمو ويزيد في وسامة خلقه وحسن تكوينه. فلما أتم سنتيه وآن فصاله(1)، ذهبت به حليمة إلى أمه، ثم عادت به إلى البادية خوفاً عليه من وباء مكة، وأقام الطفل بالصحراء سنتين آخريين يمرح في جو باديتها الصحو الطلق الذي لا يعرف قيداً من قيود الروح ولا من قيود المادة.
وأقام محمد في بني سعد إلى الخامسة من عمره. ينهل من جو الصحراء الطلق روح الحرية والاستقلال النفسي، ويتعلم من هذه القبيلة لغة العرب مصفاة أحسن التصفية، حتى لقد كان يقول من بعد لأصحابه. «أنا أعربكم، أنا قرشي واسترضعت في بني سعد ابن بكر».
وعاد إلى أمه بعد هذه السنوات الخمس، وكفل عبد المطلب حفيده وأغدق عليه كل حبه وأسبغ عليه جم رعايته. كان يوضع لهذا الشيخ، سيد قريش وسيد مكة كلها، فراش في ظل الكعبة. فكان بنوه يجلسون حول ذلك الفراش إجلالاً لأبيهم فإذا جاء محمد أدناه عبد المطلب منه وأجلسه على الفراش معه وربت على ظهره، وأبدى من آيات عطفه ما يمنع أعمام محمد من تأخيره إلى حيث يجلسون.
وزاد في إعزاز الجد لحفيده أن آمنة خرجت بابنها إلى المدينة لتري الغلام فيها أخوال جده بني النجار، وأخذت معها أم أيمن الجارية التي خلفها عبد الله من بعده. فلما كانوا بها أرت الغلام البيت الذي مات أبوه فيه والمكان الذي دفن به فكان ذلك أول معنى لليتم انطبع في نفس الصبي. ولعل أمه حدثته طويلاً عن هذا الأب المحبوب الذي غادرها بعد مقامه أياماً معدودة ليجيئه أجله بين أخواله. فقد كان النبي بعد هجرته إلى المدينة يقص على أصحابه حديث تلك الرحلة الأولى إلى المدينة مع أمه، حديث محب للمدينة محزون على من تحوي القبور من أهله فيها. ولما تم مكثهم بيثرب شهراً اعتزمت آمنة العودة. فركبت وركب من معها بعيرهما اللذين حملاهم من مكة. فلما كانوا أثناء الطريق، مرضت آمنة بالأبواء(1) وماتت ودفنت بها. وعادت أم أيمن بالطفل إلى مكة منتحباً وحيداً، يشعر بيتم ضاعفه عليه القدر فيزداد وحشة وألماً. لقد كان منذ أيام يسمع من أمع أنات الألم لفقد أبيه وهو مايزال جنيناً، وها هو ذا قد رأى بعينيه أمه تذهب كما ذهب أبوه وتدع جسمه الصغير يحمل هم اليتم كاملاً.
زاد ذلك في إعزاز عبد المطلب إياه، ومع ذلك بقيت ذكرى اليتم أليمة عميقة في نفسه ولعل جوى هذه الذكرى كان يخف بعض الشيء لو أن عبد المطلب عمّر أكثر مما عمّر، لكنه مات في الثمانين من عمره ومحمد مايزال في الثامنة. وحزن محمد لموت جده حزنه لموت أمه. حزن حتى كان دائم البكاء وهو يتبع نعشه إلى مقره الأخير، وحتى كان دائم الذكر له من بعد ذلك مع ما لقي من بعد في كفاله عمه أبي طالب من عناية ورعاية، ومن حماية امتدت إلى ما بعد بعثه ورسالته، ودامت إلى أن مات عمه.
وقد أحب أبو طالب ابن أخيه حب عبد المطلب له. أحبه حتى كان يقدمه على أبنائه، وكان يجد فيه من النجابة والذكاء والبر وطيب النفس ما يزيده به تعلقاً.. وقد أراد أن يخرج يوماً في تجارة له إلى الشام حين كان محمد في الثانية عشرة من عمره، ولم يكن يفكر في استصحابه خوفاً عليه من عناء السفر واجتياز الصحراء. لكن محمداً أبدى من صادق الرغبة في مصاحبة عمه ما قضى على كل تردد في نفس أبي طالب. وصحب الغلام القافلة حتى بلغ بصرى في جنوب الشام. وتروي كتب السيرة أنه التقى في هذه المرحلة بالراهب بحيرة وأن الراهب رأي فيه من إمارات النبوة ما تدله عليه أنباء النصرانية، وتذهب بعض الروايات إلى أن الراهب نصح أهله أن لا يوغلوا به في بلاد الشام خوفاً عليه من اليهود أن يعرفوا منه هذه الإمارات فينالون بالأذى.
في هذه الرحلة وقعت عينا محمد على فسحة الصحراء، وتعلقتا بالنجوم اللامعة في سمائها الصافية البديعة. وجعل يمر بمدين ووادي القرى وديار ثمود وتستمع أذناه إلى حديث العرب وأهل البادية عن هذه المنازل وأخبارها. وفي هذه الرحلة وقف في بلاد الشام عند الحدائق الغنّاء اليانعة التي أنسته حدائق الطائف وما يروى عنها. والتي تبدت له جنات إلى جانب جدب الصحراء المقفرة والجبال الجرداء حول مكة.
والراجح أن أبا طالب لم يفد مالاً كثيراً من رحلته تلك، فلم يعد من بعد إلى رحلة مثلها، بل قنع بحظه، وأقام بمكة يكفل في حدود ماله القليل أولاه الكثيرين، وأقام محمد مع عمه قانعاً بنصيبه، يقوم من الأمر بما يقوم به من هم في مثل سنه. فإذا جاءت الأشهر الحرم ظل بمكة مع أهله، أو خرج وإياهم إلى الأسواق المجاورة لها بعكاظ ومحبة وذي المجاز يستمع لإنشاد أصحاب المذهبات والمعلقات.
وكما عرف محمد طرق القوافل في الصحراء مع عمه أبي طالب، وكما استمع إلأى الشعراء والخطباء مع ذويه في الأسواق حول مكة أثناء الأشهر الحرم، عرف كذلك حمل السلاح في (حرب الفجار) التي حدثتت بين قبيلتي قريش وهوزان، وقد سميت الفجار لأنها وقعت في الأشهر الحرم.
ولم يحقق التاريخ سن محمد أيام حرب الفجار، ولكن هناك شبه إجماع أنه كان ابن خمس عشرة سنة في بداية الحرب وابن عشرين في نهايتها وإذا علمنا أن الحرب استمرت أربع سنوات فتكون هذه الرواية مقبولة. لأن من يحضر بداية الحرب وهو في سن الخامسة عشرة يلحق آخرها في جوار العشرين.
وقد ذكر رسول الله حرب الفجار بعد سنوات من رسالته فقال «قد حضرته مع عمومتي ورميت فيه بأسهم، وما أحب أني لم أكن فعلت».
وقد شعرت قريش بعد حرب الفجار بأن ما أصابها وما أصاب مكة جميعاً بعد موت هاشم وموت عبد المطلب من تفرق الكلمة، وحرص كل فريق على أن يكون صاحب الأمر، قد أطمع فيها العرب، بعد أن كانت أمنع من ألا يطمع. عند ذلك دعا لزبير بن عبد المطلب، فاجتمعت بنو هاشم وزهرة وتيم في دار عبد الله بن جدعان، فتعاقدوا وتعاهدوا بالله المنتقم ليكونوا مع المظلوم حتى يؤدي إليه حقه، ما بل بحر صوفة، وقد حضر محمد هذا الحلف الذي سماه العرب حلف الفضول، وكان يقول
«لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم ولو دعيت به في الإسلام لأجبت».
ومما زاد محمداً انصرافاً إلى التفكير والتأمل اشتغاله برعي الغنم سني صباه تلك. فقد كان يرعى غنم أهله، ويرعى غنم أهل مكة، وكان يذكر رعيه إياه مغتبطاً فيقول «ما بعث الله نبياً إلا راعي غنم».
كان الرسول العربي فقيراً لا يكاد يملك شيئاً، وكان يكتسب قوته من رعي الغنم، كما قدمنا. ولكنه فتى من قريش وأشرافها، ورعي الغنم قد يليق بالصبية وبأمثالهم من الذين لم يتقدم بهم الشباب، فأما إذا شبوا واستتموا قوتهم، فليس لهم بد من أن يملكوا طرقاً أخرى إلى الرزق وعمه صاحب تجارة وقد مات أبوه تاجراً وجده كان صاحب تجارة أيضاً. فما يمنعه أن يسلك الطريق التي ألفت قريش سلوكها.
وقد أقبل عليه عمه ذات يوم فأنبأه بأن خديجة بنت خويلد، امرأة غنية من أكثر قريش مالاً وأوسطهم نسباً، قد جهزت تجارة ضخمة إلى الشام. ونصح له أن يكون رسولها بتجارتها تلك، وأنبأه بأنه يستطيع أن يسعى له في ذلك عند خديجة ورأته مكة ذات يوم خارجاً في قافلتها إلى الشام يصحبه غلام لخديجة يقال له ميسرة، وقد بلغ الشام وباع واشترى وعاد مع القافلة فأدى إلىخديجة تجارتها وأدى إليها مع هذه التجارة ربحاً لم يتح لها في تجارة قط. وكان الله لم يجعل هذه التجارة إلا وسيلة لشيء آخر وراءها فقد وقع الفتى من قلب خديجة موقعاً حسناً، وإذا هي ترسل إليه مغرية له بخطبتها. وإذا هو يخطبها ثم يصبح زوجاً وكان سنه في الخامسة والعشرين وكانت خديجة تكبره بخمس عشرة سنة.
ومنذ ذلك اليوم عاش محمد في مكة عيشة الموفورين لا يشكو حاجة ولا يجد ضيقاً وقد أتيح له من خديجة الولد وأتيح له معها الأمن والدعة ولكنه في ذلك الطور من أطوار حياته ظهرت فيه خصال لم تكن مألوفة في شباب قريش فهو شديد النفرة من اللهو وشديد النفرة من اللغة أيضاً. وهو أبد الناس عن التعسف وأقربهم إلى السماحة واليسر، وهو أبغض الناس لهذه الأوثان التي كان قومه يعبدونها مخلصين أو متكلفين، وهو أصدق الناس إذا تكلم وأوفاهم إذا عامل وأبعدهم عن كل ما يزري بالرجل الكريم وهو بعد ذلك أوصل الناس للرحم، وأرعاهم للحق، وأشدهم إيثاراً للبر. فهو يجد عمه الذي كفله صبياً ويانعاً قد كثر ولده وقل ماله، ويريد أن يعينه دون أن يؤذيه فيأخذ منه صبيه عليا ويرد عليه من العناية واللطف والبر بعض ما أدى إليه أبوه حين كان صبياً يتيماً. وقد شاعت عنه هذه الأخلاق وعرف بهذه الخصال حتى أحبته قريش وسمته الأمين وعاملته على أنه الأمين حقاً.
وشهد تجديد بناء الكعبة لخمس وثلاثين سنة من مولده، حين اجتمعت كل قريش على هدمها وبنائها، ولما انتهوا إلى الحجر الأسود تنازعوا، أيهم يضعه وتداعوا للقتال. وقال أبو أمية حكموا أول من يدخل من باب المسجد، فتراضوا على ذلك. ودخل (محمد) فقالوا
هذا الأمين فتراضوا به وحكموه. فبسط ثوباً ووضع فيه الحجر وأعطى أشراف قريش طرف الثوب فرفعوه حتى أدنوه من مكانه، ووضعه عليه السلام بيده.
على أنه قد أخذ يميل إلى العزلة شيئاً فشيئاً ثم اشتد عليه حب العزلة فجعل يترك مكة بين حين وآخر، ويمضي وقد تزود لعزلته حتى إذا بلغ غار حراء خلا فيه إلى نفسه الأيام والليالي فإذا انقضى زاده أو كاد، عاد إلى أهله فتزود من جديد ورجع إلى غاره وآوى إليه. ولبث على هذه الحال إلى أن هبط عليه الوحي من السماء وهو في الأربعين من عمره.
هذه هي سطور عجلى من ولادة النبي العربي ونشأته أردتها أن تكون كمقدمة لموضوعنا الأساسي وهو (الرسول العربي وفن الحرب).


الرسول العربي وفن الحرب

اليوم وشعبنا العربي في الجبهتين الغربية والشرقية يخوض معركة الوجود ضد الغزاة والصهاينة ومن يقف وراءهما ويشد أزرهما من الدول الإمبريالية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، نعود إلى أيام الشموخ وأيام الفتوح ونحن مع الذكرى (الأربعمائة بعد الألف) لولادة الرسول العربي العظيم، لنتبين عبقريته في فن الحرب، لأنني شخصياً لا أصدق، ويشاركني في هذا الرأي معظم الذين كتبوا التاريخ، أن العرب لم ينتصروا في صدر الإسلام على الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية، لأن هاتين الإمبراطوريتين كانتا في حالة ضعف شديد فلم تتمكنا من الصمود في وجه الشعب العربي الذي هب من الجزيرة العربية مشرعاً سيف الفتح في محاولة إخضاع الشعوب المجاورة. وإنما انتصروا بفضل تفوق فنهم الحربي وبفضل توحيد كلمتهم وبفضل إيمانهم بأنهم أصحاب رسالة يجب أن يبلغوها إلى الناس أجمعين. والرسول العربي كان له الفضل في توحيد الأمة العربية لأول مرة في تاريخها تحت راية الإسلام الذي تمكن في خلال فترة لا تتجاوز 23 سنة من تحرير الجزيرة العربية والقضاء على جميع العناصر الأجنبية الدخيلة فيها وتحقيق العدالة الاجتماعية في ربوعها، أقول أن الرسول العربي الذي خاض كما يقول ويل ديورانت في كتابه «قصة الحضارة» أكثر من مائة غزوة، لا يمكن أن يكون رجلاً عادياً في فن الحرب. وبهذه المناسبة أقول أن عدداً غير قليل من الذين تصدوا لكتابة التاريخ لاسيما من غير العرب كانوا يصورون الرسول العربي مقاتلاً لا يرحم، أشهر السيف في وجه الشعوب المجاورة كافة وفرض عليهم الدين الجديد بقوة السلاح. ولكن إذا كنا مع العلم والمنطق وأردنا أن ندرس بتمعن كل الحروب والغزوات والسرايا التي قادها أو وجهها الرسول العربي، وجدنا أنها تأتي كلها ضمن تصنيف (الحروب العادلة). والحرب العادلة كما نعلم هي الحرب التي تشن إما لطرد الغزاة من أرض الوطن، أو لتحقيق ما تصبو إليه الجماهير الشعبية أي العدالة الاجتماعية في أيام الرسول العربي، والاشتراكية في أيامنا هذه.. إذن فالرسول العربي لم يشن قط أية حرب عدوانية على أحد، فقد قاتل دهاقنة الرجعية من قريش لأنهم كانوا يمثلون الطبقة المستغلة في المجتمع، وقاتل اليهود لأنهم نقضوا العهد الذي تعاهدوا عليه معه، بالإضافة إلى أنهم كانوا يمثلون أيضاً الوجه الرجعي البشع في المجتمع العربي آنذاك. وقاتل الروم وأجلاهم إلى أطراف الجزيرة العربية (الجزء الشمالي من سورية) لأنهم ليسوا أصحاب البلاد بل كانوا غزاة ومستعمرين.
ولكي نثبت للأخوة المستمعين أن الرسول العربي لم يقض على إمبراطوريتين منحلتين ومنهارتين، (سنورد مقطعاً طبق الأصل، كتبه البروفسور إدوار بروى الأستاذ في جامعة السوربون في كتاب «تاريخ الحضارات»)(1)

قال إدوار بروى
«بين أوروبة الغربية الآخذة مدنيتها بالقهقرى، وبين العالم الآسيوي الذي لم يستجمع بعد نشاطه، ويسترجع عافيته، مما ألم به من ضربات موجعة أنزلتها به جحافل برابرة البدو الرحل، ظهر الإسلام كالشهاب الساطع، فحير العقول بفتوحاته القاصمة، وباتساع رقعة الإمبراطورية الجديدة التي أنشأها.
نحن أمام شعب كان للأمس الغابر مجهول الاسم، مغمور الذكر، فإذا هو بتحد ويضم في بوتقة الإسلام، الدين الجديد الذي انطلق من الجزيرة العربية، فاكتسحت جيوشه ببضع سنوات، الدولة الساسانية، وهدت منها الأركان. ورفرفت بنوده فوق الولايات التابعة للإمبراطورية البيزنطية في آسية وإفريقية، ولم تلبث جيوشه بعد قليل أن استولت على معظم إسبانية وصقلية، وأن تقتطع لأمد من الزمن، يقصر أو يطول. بعض المقاطعات الواقعة في غربي أوروبة وفي جنوبها، ودقت جيوشه بعنف شديد، أبواب الهند والصين، والحبشة والسودان الغربي، وهددت غالية والقسطنطينية بشر مستطير، وقد تهاوت الدول، أمام الدفع العربي الإسلامي، كالأكر، وتدحرجت التيجان عن رؤوس الملوك كحبات سبحة انفرط عقدها النظيم، وهذه الأديان التي سيطرت على الشعوب والأقوام الضاربة بين سيرداريا والسنغال، ذابت كما يذوب الشمع أمام النار، بعد أن أطل على الدنيا دين جديد له من الأتباع والمريدين اليوم ما يزيد على ثلاثمائة مليون إنسان، وانجلى غبار الفتح وصلصلة السلاح عن إمبراطورية جديدة ولا أوسع، وعن حضارة ولا أسطع، وعن مدينة ولا أروع، عول عليها الغرب في تطوره الصاعد ورقيه البناء، بعد أن نفخ الإسلام في قسم موات من التراث الإنساني القديم ورحاً جديدة، عادت معه إليه الحياة، فنبض وأشع وأسرى. ولهذه الأسباب مجتمعة، كان لابد أن يحتل تاريخ العالم الإسلامي محلاً مرموقاً في ثقافة رجل العصر. كما كان لابد لرجل العصر هذا، من أ، يفهم جيداً أن مدلول المدينة لا يقتصر على شعب أو بلد متحيز في الزمان، وأن يعرف جيداً أن قبل توما الأكويني الذي رأى النور في إيطاليا، طلع ابن سينا المولود في إحدى مقاطعات التركستان، وأن مساجد دمشق وقرطبة ارتفعت قبابها قبل كاتدرائية نوتردام في باريس بزمان، وإلا ينتقص من شأن العالم العربي الإسلامي اليوم في ما يعاني من غمرة، ستنقشع بأسرع مما يظن، وأن لا ينظر إلى التاريخ العربي الإسلامي من خلال مرئيات ألف ليلة وليلة، هذا الأثر المدهش الأجنبي النشأة، الذي ولت أيامه وزالت لياليه، والذي ما لبث العرب ينظرون إليه بشيء من الحنين إلى الفردوس المفقود، بل علينا اعتبار هذا التاريخ قطعة من صميم التاريخ الإنساني، المتنوع بتنوع الأزمنة والأمكنة، والذي لايزال على الرغم من جزئياته وخصائصه، تاريخ هذه البشرية الجامعة الجمعاء».
انتهى كلام البروفسور إدوار بروى واعتقد أنه ليس ثمة إنسان واحد يستطيع أن يطعن في هذا الكلام لسبب بسيط، وهو أن ما قاله الأستاذ بروى هو جزء من الحقيقة، من حقيقة تاريخنا العربي المجيد.
وبهذه المناسبة أريد أن أقول لكم أنني شخصياً، بعد هزيمة الخامس من حزيران، عدت إلى كتب التاريخ العربي وقرأتها مرة أخرى وأوليت اهتماماً أكثر لما كتبه المؤرخون غير العرب عن تاريخنا كي أكون على يقين من أن أجدادنا العرب هم أنفسهم الذين صنعوا آيات البطولة وهم الذين دوخوا الروم والفرس، وطردوهم من بلادهم وهم الذين قدموا للإنسانية الحضارة العظيمة التي يشهد الشرق والغرب بأهميتها وتنوعها وغناها.
والرسول العربي الذي خاض غمار الحرب في أكثر من غزوة وموقعة وسرية، والذي تم على يديه، وفي حياته كما ذكرنا توحيد عرب الجزيرة العربية، لم يكن كما ذكرنا قائداً كسائر القادة، وإنما كان قائداً عسكرياً مبدعاً فذاً، بالإضافة إلى صفاته الأخرى التي يشهد الأعداء قبل الأصدقاء أنها ما اجتمعت لنبي من قبله.

الرسول العربي وثبات المقصد
إن مبدأ المقصد ـ أو مبدأ الغرض ـ في العلم العسكري يتوخى تحديد الهدف الذي من أجله سوف تستخدم القوات المسلحة ضد العدو فيكون ذلك الهدف واضحاً، ومحدداً ومعروفاً لا يحتمل اللبس أو الغموض أو التفسير أو التأويل أو الاجتهاد ويكون محور الخطة الاستراتيجية، وموضوع خطط العمليات. وبكلمة واحدة، إن مبدأ المقصد يعني الثبات والإصرار على تحقيق الهدف المحدد مهما بلغت التضحيات. ومهما كانت النتائج.
إن الرسول العربي يعتبر نموذجاً يحتذى في ثبات المقصد.
يقول أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في كتابه (تاريخ الرسل والملوك)(1) أن أناساً من قريش اجتمعوا، فيهم أبو جهل بن هشام والعاص بن وائل والأسود بن المطلب والأسود بن عبد يغوث، في نفر من مشيخة قريش، فقال بعضهم انطلقوا بنا إلى أبي طالب فنكلمه فيه، فلينصفنا منه، فيأمره فليكف عن شتم آلهتنا، وندعه وإلهه الذي يعبد، فإنا نخاف أن يموت هذا الشيخ فيكون منا شيء فتعيرنا العرب ويقولون تركوه، حتى إذا مات عمه تناولوه.
قال فبعثوا رجلاً منهم يدعى المطلب، فاستأذن لهم على أبي طالب، فقال هؤلاء مشيخة قومك وسرواتهم، يستأذنون عليك، قال أدخلهم، فلما دخلوا عليه، قالوا يا أبا طالب، أنت كبيرنا وسيدنا، فأنصفنا من ابن أخيك، مره ليكف عن شتم آلهتنا وندعه وإلهه.
قال فبعث إليه أبو طالب، فلما دخل الرسول العربي.
قال يا ابن أخي، هؤلاء مشيخة قومك وسرواتهم، وقد سألوك النصف، أن تكف عن شتم آلهتهم، ويدعوك وإلهك فابق علي وعلى نفسك ولا تحملني ما لا أطيق فظن الرسول العربي أنه قد بدا لعمه فيه بداء، وأنه خاذله ومسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه، فقال الرسول العربي «يا عماه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر، حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته»
ولقد أثبتت الحوادث بعد أن الرسول العربي بقي طوال حياته يناضل لتحقيق الهدف الذي وضعه نصب عينيه، حتى انتقل إلى جوار ربه. ولا نعتقد أنه وجد قائد عسكري في العالم يتمتع بهذا القدر من ثبات المقصد ووضوح الرؤية والإصرار على تحقيق الغرض.

الرسول العربي والاستطلاع
يعتبر الاستطلاع عنصراً أساسياً في تقرير نتيجة الحرب، لأن الطرف الذي يملك عن خصمه معلومات وافية ودقيقة، هو الطرف المؤهل لربح المعركة، أما الطرف الذي لا يعرف عن خصمه شيئاً ففي أحسن الأحوال يقاتل عدوه وهو مغمض العينين وقد أدرك الرسول العربي أهمية الاستطلاع ومعرفة أحوال العدو، وأولاه الاهتمام الذي يستحق، وعلى ضوء المعلومات المؤكدة عن حال العدو وعدده وإمكاناته، كان الرسول يتخذ القرارات الأساسية في اختيار نوع المعركة، هل هي هجومية، (كما حدث في غزوة بدر) أو دفاعية (كما حدث في غزوة الخندق).
قال ابن اسحق أن الرسول العربي لما نزل بدراً ركب مع رجل من أصحابه حتى وقف شيخ من العرب فسأله عن قريش وعن محمد وأصحابه وما بلغه عنهم فقال الشيخ ألا أخبركما حتى تخبراني من أنتما فقال الرسول العربي إذا أخبرتنا أخبرناك..
قال أذاك بذاك، قال نعم، فقال الشيخ فإنه بلغني أن محمداً وأصحابه خريجوا يوم كذا وكذا، فهم اليوم بمكان كذا وكذا. وبلغني أن قريشاً خرجت يوم كذا وكذا، فهي اليوم بمكان كذا وكذا، فلما فرغ من خبره قال من أنتما؟.. فقال الرسول العربي نحن من ماء وانصرف عنه.
وفي هذه الحادثة نجد مايلي
1ـ أن الرسول العربي قد وجه السؤال عن قوات المشركين وقوات المؤمنين ليموه على الأعرابي الشيخ، ذلك أنه إذا سأله عن المشركين فقط علم ذلك الرجل حقيقة الرسول العربي من مجرد السؤال عن المشركين ولكنه بهذا الأسلوب أخفى عن الرجل هويته الأصلية.
2 ـ لقد كان جواب الأعرابي دقيقاً وفيه تقدير سليم لتوقيت سير الأرتال، وأماكن وجودها المحتملة بالاستناد إلى معرفة قاعدة انطلاق كلا الطرفين.
وعندما أمسى الرسول العربي في بدر، بعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص في نفر من أصحابه يلتمسون الخبر له. فالتقوا بإبل تحمل الماء، فيها غلام بني الحجاج واسمه أسلم، وغلام من بني العاص واسمه عريض (أبو يسار) فأتوا بهما فسألوهما والرسول العربي قائم يصلي، فقالا نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء، فقال الرسول العربي أخبراني عن قريش…
قالا هم والله وراء هذا الكتيب الذي ترى بالعدوة القصوى، فقال لهما الرسول العربي كم القوم؟..
قالا كثير.
قال ماعدتهم؟…
قالا لا ندري.
قال كم ينحرون كل يوم؟..
قالا يوماً تسعاً ويوماً عشرا. فقال الرسول العربي القوم فيما بين التسعمائة والألف ثم قال لهما فمن فيهم من أشراف قريش؟…
قالا عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البختري بن هشام وحكيم بن حزام ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر، وطعمية بن عدي والنضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو، وعمرو بن عبدود، فأقبل الرسول العربي على الناس فقال هذه مكة ألقت إليكم أفلاذ كبدها.
ونلاحظ هنا النواحي التالية
1 ـ إرسال دوريات الاستطلاع لخطف الأسرى.
2 ـ استجواب الأسرى استجواباً دقيقاً والاستنتاجات غير المباشرة عن تعداد القوم عندما سألهم عن عدد الجزور التي ينحرونها.
وكذلك استنتاجه غير المباشر عن نوعية المشتركين في القتال وأي القبائل والأفخاذ والبطون يمثلون، من خلال سؤاله عن أشراف القوم، الموجودين في صفوف الأعداء.
وقد أمر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في وصية إلى قائد قومه في القادسية سعد بن أبي وقاص بالاستطلاع كما شدد على أهيمته
«.. وإذا وطئت أرض العدو فاذك العيون بينك وبينهم، ولا يخف عليك أمرهم، وليكن منك عند دنوك أرض العدو أن تكثر الطلائع وتثبت السرايا بينك وبين عدوك، فتقطع السرايا أمدادهم ومرافقهم. وتتبع الطلائع عوراتهم، واختر للطلائع أهل البأس والرأي من أصحابك وتخير لهم سوابق الخيل فإن لقوا عدواً كان أول ما تلقاهم القوة…».
واعتقد أنه في أيامنا هذه، إذا ما كلفنا أي قائد جبهة أن يصدر توجيهاً عملياتياً إلى أحد قادة الجيوش التي تعمل تحت قيادته في بند الاستطلاع، لما استطاع سبيلاً إلى أن يأتي بأفضل من ذلك.

الرسول العربي والتمويه العملياتي
يحتل التمويه العملياتي أهمية بارزة في العلم العسكري ويعتبر توقيت العملية والمحافظة على سريتها جزءاً أساسياً من التمويه العملياتي، ومن الثابت تاريخياً أن الرسول العربي كان يعير هذا الموضوع أهمية فائقة وفي أول سرية أرسلها لاعتراض قوافل قريش، كانت بقيادة عبد الله بن جحش الأسدي، فقد كتب له كتاباً وأوصى ألا يقرأه إلا بعد ليلتين فلما سار ليلتين قرأ الكتاب فإذا فيه «أن سر إلى نخلة على اسم الله تعالى وبركته ولا تكرهن أحداً من أصحابك في السير معك وامض لأمري فيمن اتبعك منهم حتى تقدم ببطن نخلة فترصد بها غير قريش»(1).
ويلاحظ من أخبار هذه السرية المقاتلة الأولى أن الرسول العربي اتخذ احتياطات كثيرة لضمان سريتها، فقد أعطى رئيسها تعليمات سرية مكتوبة لا يعرفها إلا هو أي (الرسول العربي) وكاتبه الذي كتبها له (أبي بن كعب). كما أنه أمرها أن تسلك في سيرها طريق نجد، وهو باتجاه الشرق، على الرغم من أن هدفها نخلة جنوب المدينة، وهذا سبيل آخر من سبل الكتمان والتمويه العملياتي التي استعملها الرسول في هذه السرية حتى لا تكتشف الجاسوسية المعادية نواياه وتحركات رجاله. لأن وصول أخبار السرية المسلحة إلى قريش قد يعرضها لخطر كبير حاول الرسول العربي أن يتجنبه.
وفي هذا العصر تعتبر المحافظة على كتمان العملية من أهم مسائل التمويه العملياتي. وأثناء العدوان الثلاثي على مصر 1956 تلقى الأسطول الفرنسي الإنكليزي المشترك الأمر من قيادته بأن يتوجه إلى البحر المتوسط. وكانت التعليمات الموجودة لدى قادة الأسطول تقضي بأن لا يفتحوا المغلف الذي يتضمن خطة العمليات إلا بعد 48 ساعة من الإبحار، والأمثلة في هذا المجال أكثر من أن تحصى.

الرسول العربي وخداع العدو
لقد اتبع الإسلام الطرائق المشروعة للوصول إلى تحقيق الغاية التي جاء من أجلها ولكن كثيراً ما تضطر الثورات إلى اللجوء إلى العنف المسلح لحسم الصراع القائم، وفي سبيل تحقيق النصر على العدو يجب أن تتبع كل الأساليب والوسائل ومنها خداع العدو والتمويه عليه. وفي هذا المجال قال الرسول العربي (الحرب خدعة(1)).
كما جاء في سيرة ابن هشام أن نعيم بن مسعود أتى رسول الله (e) فقال يا رسول الله أني قد أسلمت، وأن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت، فقال رسول الله (e) إنما أنت رجل واحد، فخدل عنا أن استطعت، فإن الحرب خدعة. فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة اليهود وكان لهم نديماً في الجاهلية فقال يا بني قريظة، قد عرفتم ودي إياكم، قالوا صدقت.. لست عندنا بمتهم فقال لهم إن قريشاً وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدون أن تتحولوا منه إلى غيره، وإن قريشاً وغطفان قد جاءت لحرب محمد (e) وأصحابه وقد ظاهرتموهم عليه وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره فليسوا كأنتم، فإن رأوا نهزة أصابوها وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم، وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، ولا طاقة لكم به فلا تقاتلوا مع القوم، حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم فقالوا له لقد أشرت بالرأي، ثم خرج حتى أتى قريشاً فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمداً (e) وأنه قد بلغني أمر قد رأيت حقاً أن أبلغكموه نصحاً لكم فاكتموا عني، فقال نفعل، قال تعلموا أن معشر اليهود قد ندموا على ماصنعوا فيما بينهم وبين محمد (e) وقد أرسلوا إليه إنّا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي منهم فنستأصلهم. فأرسل إليهم أن نعم، فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم رجلاً واحداً، ثم خرج حتى أتى غطفان فقال لهم مثل ما قال لقريش.
فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس من الهجرة، أرسل أبو سفيان بن حرب إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان فقالوا لهم إنا لسنا بدار مقام فقد هلك الخف والحافر، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمداً، فأرسل اليهود إليهم أن اليوم يوم سبت لا نعمل فيه، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل محمداً (e) حتى تعطونا رهناً من رجالكم يكونون عندنا، فإنا نخشى إن خسرتم الحرب واشتد عليكم القتال أن تنسحبوا إلأى بلادكم، وتتركونا والرجل في بلدنا، ولا طاقة لنا به، فلما رجعت الرسل بما قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان والله إن الذي حدثكم به نعيم بن مسعود لحق. فقالت قريش إنا لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا، فقالت اليهود إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق، فأرسل اليهود إلى قريش إنا والله لا نقاتل معكم محمداً (e).
وفي تلك الليلة، وقد دب التخاذل بين قريش وغطفان وبني قريظة وأصبح كل فريق يشك في الفريق الآخر، جاءتهم ريح شديدة البرد فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح خيامهم، فلما انتهى إلى الرسول العربي ما اختلف من أمرهم وما فرق من جماعتهم دعا حذيفة بن اليمان فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلاً. وعندما دخل حذيفة إلى معسكر قريش والريح تفعل بهم ما تفعل سمع أبا سفيان يقول يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخلف وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من هذه الريح ما ترون. والله ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإني مرتحل.
قال حذيفة فرجعت إلى رسول الله (e) وأخبرته الخبر، وسمعت غطفان بما فعلت قريش، فانشمروا راجعين إلى بلادهم.
وهكذا حقق نعيم بن مسعود بتوجيهات الرسول العربي في خداع قريش وغطفان وبني قريظة وتفريق كلمتهم ما كان يعجز عن تحقيقه جيش بأكمله.

الرسول العربي والحرب النفسية
أعطى التطور الكبير في فن الحروب الحديثة صورة الشمول، وهكذا أضحت المعارك تمتد لتشمل كل الجبهات وبكل ما يمكن استخدامه من أسلحة، وفي هذه الحرب الشاملة توجد «جبهات قتال» كما توجد «جبهة داخلية».
والصراع المسلح هو محصلة العوامل العسكرية والاقتصادية والنفسية، ومن هنا جاء تعبير «الحرب الشاملة».
والحرب النفسية هي أحدث أسلحة الحرب التي توجه ضد «الفكر» و«العقيدة» و«الشجاعة» و«الثقة» وضد الرغبة في القتال، وتستخدم في الدفاع كما تستخدم في الهجوم، ذلك لأنها تحاول أن تبني قوى الشعب والجنود المعنوية، بينما تحطم في آن واحد قوى العدو المعنوية.
ولقد استخدم الرسول العربي الحرب النفسية في معظم معاركه وغزواته حتى أنه قال «نصرت بالرعب» وفي فتح مكة، يتجلى لنا دور الحرب النفسية بينّاً واضحاً في تحقيق النصر على العدو بدون استخدام السلاح. وبدون إراقة قطرة دم.
وفي العاشر من رمضان سنة ثمان من الهجرة، خرج الرسول العربي متوجهاً إلى مكة على رأس جيش قوامه عشرة آلاف رجل. ولما نزلوا «مرّ الظهران» على مسيرة يوم واحد من مكة، أمر الرسول العربي أصحابه بأن يوقدوا النيران في المعسكر وعلى رؤوس الجيال المحيطة بمكة، ليدب الرعب في قلوب قريش فيستسلموا بدون قتال، ويدخل الرسول العربي مكة من غير أن يسفك دماً، وتظل مكة بلداً حراماً كما كانت.
فلما بلغ قريشاً مسير الرسول العربي، وسمعوا صهيل الخيل راعهم ذلك، فبعثوا أبا سفيان بن حرب يستطلع الأخبار، وقالوا إن لقيت محمداً فخذ لنا منه أماناً.
فقالوا أبو سفيان ما رأيت كالليلة نيراناً قط ولا عسكراً، هذه كنيران عرفه، ثم أسلم أبو سفيان.
فلما أراد الرجوع أمر الرسول العربي العباس أن يحبس أبا سفيان بمضيق الوادي، حتى تمر به جنود المسلمين فيراها، وهذا ما يعرف في أيامنا باستعراض القوات المسلحة الذي يراد منه إظهار القوة وإلقاء الرعب والرهبة في نفوس الأعداء ولعل العرض العسكري الذي أجراه هتلر قبيل الحرب العالمية الثانية أمام رئيس الوزارة البريطانية تشنمبرلن، في برلين يمكن أن يعتبر مثالاً حياً لموضوعنا هذا.
قال العباس ففعلت ما أمرني به الرسول العربي، وكلما مرت قبيلة، كبرت ثلاثاً عند محاذاة أبي سفيان، فيقول يا عباس من هذه؟ فأقول سليم، فيقول مالي ولسليم، ثم تمر القبيلة الأخرى فيقول يا عباس من هؤلاء؟ فأقول مزينة، فيقول مالي ولمزينة، وهكذا حتى مرت القبائل كلها، ما تمر قبيلة إلا سألني عنها، فإذا قلت بنو فلان. قال مالي ولبني فلان (وهو كلام يقوله الرجل إذا خاف من شيء أو شعر منه ضرراً) حتى مر به الرسول العربي كتيبته الخضراء، ألبسهم الحديد ـ والعرب تطلق الخضرة على السواد، كما تطلق السواد على الخضرة ـ وفيها المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد، فيها ألف دارع، وعمر بن الخطاب يزجل بصوته ويقول ما لاحد بهؤلاء قبل ولا طاقة والله يا أبا الفضل(1) لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيماً فقلت يا أبا سفيان إنها النبوة.
فقال نعم.
ثم قال له العباس التجئ إلى قومك، فلما جاء أبو سفيان قومه صرخ فيهم بأعلى صوته يا معشر قريش… هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به فأسلموا تسلموا.
فاستسلم أهل مكة، ودخل الرسول العربي البلد الحرام بلا مقاومة ولا قتال.

الرسول العربي وتصفية الخصوم المعادين للثورة
من المتعارف عليه في الحروب الثورية، إن قيادة الثورة كثيراً ما تضطر لتصفية الخصوم الذين يشكلون عقبة كأداء في طريقها، وهذا ما يختلف دونما شك عن الإرهاب الأعمى كما يقول الرائد أرنستوتشي غيفارا في كتابه حرب العصابات.
يقول غيفارا
«يمكن اعتبار الإرهاب وسيلة مقبولة إذا استخدم لمعاقبة قائد مرموق من قوى الاضطهاد، اشتهر ببغيه وشدته الفعالة في القمع، وعرف أن ثمة فائدة في إزالته من الوجود»(1).
وفي قصة مصرع كعب بن الأضرف (اليهودي) ما يدل على أن الرسول العربي لم يكن يتردد لحظة واحدة في تصفية خصوم الثورة عندما يجد أنه لابد من إزالتهم من الطريق كي تمضي الثورة إلى الأمام.
كان كعب بن الأشرف اليهودي شاعراً، وكان يهجو الرسول العربي ويحرض عليه وقد تمادى في إيذاء المسلمين حتى أنه شبب بنسائهم فقال الرسول العربي «من لي بابن الأشرف، فقد استعلن بعداوتنا وهجائنا، وقد خرج إلى المشركين فجمعهم على قتالنا؟…».
فقال محمد بن مسلمة يا رسول الله أتحب أن أقتله؟.. قال «فافعل ولا تعجل حتى تشاور سعد بن معاذ». فشاوره ابن مسلمة، فقال له سعد توجه إليه وأشك إليه الحاجة وسله إن يسلفكم طعاماً. فاجتمع محمد بن مسلمة ونفر من الأوس فأخبرهم بما وعد به الرسول العربي منق تله، فأجابوه وقالوا كلنا نقتله.
ثم أتوا الرسول العربي فقالوا يا رسول الله لابد لنا أن نتقول شيئاً ونفتعل أقوالاً غير مطابقة للواقع تسر كعباً لنتوصل بذلك إلى التمكن منه ونحتال به على قتله. فقال الرسول العربي «قولوا ما بدا لكم فأنتم في حل من ذلك…» فأباح لهم الكذب (إذا كان من أجل الخداع في الحرب).
ثم أرسلوا أبا نائلة إلى كعب فجاءه فتحدث معه ساعة ثم قال ويحك يا ابن الأشرف، إني جئتك بحاجة فاكتم عني. قال افعل.. قال قدوم هذا الرجل علينا من البلاء، عادتنا به العرب، ورمتنا عن قوس واحدة، وقطعت عنا السبيل، وأصبحنا وقد جهدنا وجهد عيالنا. وإني أريدك أن تبيعني طعاماً ونرهنك، ونحسن في ذلك. فقال ارهنوني أبناءكم، قال لقد أردت أن تفضحنا، إن معي أصحاباً لي على مثل رأيي. أريد أن آتيك بهم فتبيعهم وتحسن في ذلك، قال إذاً ترهنوني نساءكم، قال كيف نرهنك نساءنا وأنت أشب أهل يثرب؟.. قال أبو نائلة نرهنك من السلاح ما فيه وفاء وأراد أبو نائلة أن لا ينكر السلاح إذا جاؤوا بها، قال كعب تبلغت.
ولما أرادت المجموعة الفدائية التوجه إلى حصن كعب، مشى معهم الرسول العربي إلى بقيع الفرقد ثم وجههم فقال «انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم»، فأقبلوا حتى انتهوا إلى حصن كعب فهتف أبو نائلة فنزل، ثم قال له أبو نائلة هل لك أن تتماشى إلى شعب العجوز بظاهر المدينة فتتحدث بقية ليلتنا هذه… قال إن شئتم. فمشوا وتحدثوا قرابة ساعة، ثم إن أبا نائلة أدخل يده في رأس كعب بن الأشرف، ثم شمها وقال ما رأيت كالليلة طيباً اعطر قط، ثم عاد لمثلها عدة مرات حتى اطمأن، ثم أخذ برأسه. ثم قال اضربوا عدو الله فضربوه وأجهز محمد بن مسلمة عليه. ثم أتوا الرسول العربي فوجدوه قائماً يصلي بالبقيع ـ فلما بلغوه كبروا، فكبر الرسول العربي وقال «أفلحت الوجوه» قالوا ووجهك يا رسول الله، ورموا برأس كعب بين يديه فحمد الله على قتله. وكان لمقتله على ما يبدو أثر كبير في معنويات اليهود في المدينة، وقد علق محمد بن مسلمة وهو أحد المسلمين الذين اشتركوا في قتل كعب على الحادث وذيوله بقوله «… فأصبحنا وقد خافت اليهود لوقعتنا بعدو الله، فليس بها (أي المدينة) يهودي إلا وهو يخاف على نفسه».(1)

الصمود والثبات في القتال
يقول كلاوزفيتز في كتابه (في الحرب) «أما في الحرب، فيجد قائد المجموعة الكبيرة نفسه دوماً وسط دوامة من المعلومات الخاطئة والصحيحة، وأخطاء ارتكبت بتأثير الخوف والإهمال أو التسرع، كما يجد نفسه وسط أعمال مستقلة ناتجة عن رأي خاطئ أو صحيح، وإرادة سيئة، وشعور بالواجب جرى التعبير عنه، بصورة جيدة أو سيئة، وكسل أو إنهاك، وظروف لم يفكر فيها أحد، وبالاختصار يتعرض هذا القائد إلى مائة ألف انطباع، معظمها يبعث القلق وقليل منها الاطمئنان. وتتيح تجربة طويلة في الحرب، اكتساب القدرة على وزن كل هذه الحوادث بسرعة وإعطائها قيمتها الحقيقية. وتكفي الشجاعة وقوة الخلق لمقاومة الانطباعات، كما يقاوم الصخر أمواج البحر المتلاطمة. ومن يخضع لهذه الانطباعات، لا ينهي أي عملية من عملياته بنجاح. ولهذا كان الصمود في العمل الذي شرع فيه، يشكل وزناً معاكساً لا غنى عنه، مادامت لم تتدخل أسباب أخرى قاهرة لتعمل في اتجاه معاكس. كذلك، ليس ثمة انتصارات مجيدة لم تتحقق بجهود وعناء وحرمان. إن الإنسان الطبيعي والمعنوي مستعد دوماً للإذعان. ولكن هناك طاقة تظهر بثبات يدهش العالم والأجيال المقبلة. هذا الثبات هو الذي يقودنا إلى الهدف».
انتهى كلام الجنرال كارل فون كلاوزفيتز.
والحقيقة التي لا جدال فيها أن الصمود والثبات في المعركة يقومان بدور كبير في إحراز النصر بل يعتبران، في كثير من المذاهب العسكرية، العنصر الأساسي في الاستراتيجية العسكرية.
قال تعاليك ]يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار، ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير»(1)
وفي هذه الكلمات القليلة تلخيص عظيم لفكرة الصمود والثبات في القتال. فقد نهى الله نهياً قاطعاً عن الفرار من مواجهة العدو، بل ذهب أكثر من ذلك إلى تحديد الحالات التي يمكن للمؤمن فيها أن يعطي ظهره للعدو. الحالة الأولى تغيير وضعية الرمي، والحالة الثانية تجده إحدى الوحدات المحاصرة أو التي يضغط عليها العدو أكثر من غيرها. (الوحدات الموجودة في قطاع الخرق) على سبيل المثال لا الحصر.
وقال تعالى أيضاً ]يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال، ان يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وان يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون»(2)
وخطب الرسول العربي في الناس يوم بدر فقال
«والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة».
وكان سعد بن معاذ حاضراً بدر فأجاب الرسول العربي بمايلي
«قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ماجئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة. ولعل يا رسول الله تخشى أن تكون الأنصار ترى عليها أن لا ينصروك إلا في ديارهم وأني أقول على الأنصار وأجيب عنهم فأطعن من شئت وصل حبل من شئت واقطع حبل من شئت وسالم من شئت وعاد من شئت وخذ من أموالنا ماشئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت فينا من أمر، فأمرنا تبع لأمرك. فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك. والذي يعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، وما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا، وأنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقربه عينك. فسر بنا على بركة الله فنحن عن يمينك وعن شمالك وبين يديك ومن خلفك».
وفي جواب سعد بن معاذ للرسول العربي نجد ما يشابه التعهد الذي يعطيه قادة الجيوش اليوم لقياداتهم السياسية بأنهم سيقومون بتنفيذ المهمة المسندة إليهم مهما كلف الأمر.
ولقد ضرب الرسول العربي يوم حنين مثلاً رائعاً في الصمود، مثلاً يجب أن نحتذي به على مر الأجيال… ذلك أنه في العاشر من شوال سنة 8 للهجرة وصل الرسول العربي إلى حنين(1) وكان في مقدمتهم خالد بن الوليد، ويخالطهم شعور في شيء كثير من الزهو والإعجاب بالنفس لكثرة عددهم. وقد كمنت ثقيف وهوزان في شعاب الوادي وجوانبه ومسراته الضيقة استعداداً لمباغتة المسلمين. ولما بدأ المسلمون هجومهم، كان الوقت استعداداً لمباغتة المسلمين. ولما بدأ المسلمون هجومهم، كان الوقت مبكراً وماتزال الظلمة مختلطة بالنور، فلم يروا عدوهم. وفجأة خرج بنو هوزان وثقيف وانقضوا على المسلمين بحركة مباغتة، أفزعتهم وأشاعت الفوضى في صفوفهم، فأسرع بعضهم بالهرب، ولاسيما حديثو الإسلام من القرشيين، وبعضهم من بني سليم، الذين كانوا في المقدمة مع خالد بن الوليد. أما الرسول العربي فقد ظل صامداً في مكانه لا يتزعزع، يقاتل على بغتلته البيضاء وهو يرتجز
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
ورأى الرسول العربي أن أهم ما ينبغ