تحميل كتاب الرجل السابق pdf

تحميل كتاب الرجل السابق pdf

الكاتب: محمد أبي سمرا

التقييم:3.91

تاريخ النشر: 2006
Goodreads

“فجأة كبروا بدوني وفي غفلة مني. أحياناً أخالهم أبناء أمهم وحدها، ولا تقوم بيني وبينهم غير صلة الأحفاد بجدهم، أنا الذي اشعر أنني صغير على الأبوة، ولن أبلغها مهما تقدمت في عمري. أقول لأمهم أنني سأعود باكراً إلى البيت قبل نومهم، فلا أعود إلا في ساعة متأخرة من الليل. أينما كنت، ومهما كانت تافهة مشاغلي، أؤجل إيابي، هكذا، من غير إرادة مني. أدخل متسللاً كلص، خائفاً من إيقاظها، لئلا أوقظها، فترميني بعبارات من تأنيبها المعتاد. كثيراً ما تكون بي رغبة جارفة في دخول غرفتهم لألقي عليهم نظرة حنان واشتياق، لكنني لا أفعل، لأنني لكثرة ما أنبتني ووصمتني بانعدام مسؤوليتي وحناني الأبوي، صرت أحسب، إذا ما فعلت، أنني أرضخ لها وأستجيب لرغبتها لا لرغبتي، وحين افعل، أشعر فيما أقبلهم أن في قبلاتي شفقة أكثر مما فيها من الشوق والحنان. اصطحب بكرهم في نزهات نهارات الآحاد، فيجلس قربي في سيراتي العتيقة، أَنوفاً متشاوفاً كالفرنسيين الذي لا أرى في تشاوفهم وأنفتهم غير مبالغة في التهذيب والاستبعاد هدفها إقامة الحدود والمسافات بين واحدهم والآخر. أروح أغني أغنيات عربية قديمة تشجيني حتى تكاد تسيل الدمع من عيني. أكف عن الغناء والتفت إليه، فأراه ساهماً واجماً ثابت البصر ينظر في البعيد. اسأله إن كان يعبجه غنائي، فيلتفت إلي في صمت، رافعاً حاجبيه وجفنيه، ثم يواصل وجومه الذي يحيرني ويربكني. لم يكن قد بلغ العاشرة بعد، لكنني رأيته في العشرين، لما التفت مرة إليّ في هزء، وسألني فيما كان التلفزيون يعرض مشاهد عن حرب لبنان “أهذا هو بلدك الذي تحدثني عنه؟”…. أوصلهم إلى بوابة الملعب وأعود مسرعاً إلى سيراتي العتيقة، لئلا يلمحني أحد من ذوي التلاميذ، أقرانهم، فيعلم أنني والدهم. مثلهم كنت في طفولتي أدخل منكس الرأس إلى ملعب مدرسة لعلماوي الابتدائية في البسطا التحتا. وحين أتخيلهم نتحين جهة من الملعب خالية من التلاميذ اللاهين، اشعر بالكآبة والانهاك في نفسي وجسمي، ثم أتخيل كيف سيجلسون شاردي الأذهان على مقاعد خلفية من قاعات المدرسة”.

يعود إلى بيروت وفي زيارته تلك، يكتشف وهو المقيم منذ سبع عشرة سنة في فرنسا، يكتشف كم هو ما زال يشبه رفاق طفولته في خلقته وحركاته ونبرة صوته وملبسه؛ في حي سليم مسعد الذي ولد فيه وأخروته وفي كوخ من أكواخه حتى أنه وحين استعادته بعضاً لمشاهد حياته في ليون، خيّل إليه أن زوجته الفرنسية، مونيك، وأبنائه الثلاثة ولدوا أيضاً في الكوخ نفسه. وفي أثناء زيارته تلك يمر بتجربة عاطفية اعتبرثا نقطة تحول في شخصيته التي حملت أعباء زمنٍ قاسٍ زمن حرب جعلت منه رجلاً يحمل إحساساً بالخجل دائماً وأبداً من ذاته.