تحميل كتاب أحوال العالم الزائل pdf
الكاتب: أحمد عبد العاطي
التقييم:3.87
“ستموت وأنت تركض عاريًا في الشوارع”.
تنبأ لي أبي ذات صباح حين وُضع الإفطار على المائدة، وكنا يومها، جميعنا بلا استثناء، قد هيأنا نفسنا لرحيله الحتمي خلال أيام قليلة.
ظلت الصورة الأكثر حيوية في ذهني، حتى بعد تراكم ما يزاحمها من لقطات أخشى البحث عنها في ذاكرتي كل الأحاسيس المريرة، كل الألم اليائس والأحزان، كل العبارات الجارحة والفظة كسارينة الإنذار المحمومة، وكل البغض الممكن في الحياة.
وظل غريبًا ألا تملك أي من تلك الإحباطات القارسة القوة ذاتها للحفاظ على نفسها ضد هجمات النسيان المستمرة كما فعلت هذه الصورة الصلبة والمخزية في عقلي.
سمع ساعتها، هناك في الخارج، وقع المطر المتزايد يطرق النافذة المواربة فقالها محملًا بالسخط، قبلما يلتفت إلى الجميع باكيًا يطلب المغفرة منهم على إثمه الذي رماه في رحم أمي فاكتسى لحمًا وصار أنا. أنا بهيئتي الحالمة وقلبي الناعم كالنسيم، وعينيَّ اللتين صارتا مطابقتين بقسوة لعينيه.
كنت أعرف أن ثمة شبحًا يسكنه، يعبث بعقله فيُردي روحه وينطلق هو قافزًا فوق لسانه وبين حركات محجريه الغائرين، لكن الشبح هنا كان من نوع آخر، استوطن جسده على هيئة ورم بدأ في البنكرياس ومن ثَمَّ راح، لقرابة السنوات الخمس، ينشر أتباعه في كل وريد وشريان حتى استقر أخيرًا في الكبد والرئتين والدماغ. بعدها، مع توترات العجز، والواقع الرهيب الطارئ على عقله، لم يعد ينتبه لكلماته. ولا حتى لشغفه القديم الذي ورثتُه منه كأي عامل روحي مشترك بين أب حنون وولد مطيع. شغف التقليل من الآخرين.